الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } قوله {قد أفلح المؤمنون } قوله {خاشعون }روى المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية{الذين هم في صلاتهم خاشعون }. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد. وفي رواية هشيم: كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}؛ فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون أمامهم. وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلي إلى حيث ينظر في- البقرة - عند قول وأول فرض من شريعة ديننا وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقته رحمة وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته نجيا فيا طوباه لو كان يخشع و اختلف الناس في الخشوع، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين. والصحيح الأول، ومحله القلب، وهو أول علم يرفع من الناس؛ قاله عبادة بن الصامت، رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء، وقال: هذا حديث حسن غريب. وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة. قال أبو عيسى: ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث، ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان. قلت: معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث، كتب حديثه ولا يحتج به. واختلف فيه قول يحيى بن معين، ووثقه عبدالرحمن بن مهدي أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي، واحتج به مسلم في صحيحه. وتقدم في - البقرة - معنى اللغو والزكاة فلا معنى للإعادة. وقال الضحاك: إن اللغو هنا الشرك. وقال الحسن: إنه المعاصي كلها. فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال: هو الشرك؛ وقول من قال هو الغناء؛ كما "روى مالك بن أنس" عن محمد بن المنكدر، على ما يأتي في- لقمان - بيانه. ومعنى-فاعلون - أي مؤدون؛ وهي فصيحة، وقد جاءت في كلام العرب. قال أمية ابن أبي الصلت: قوله {والذين هم لفروجهم حافظون}قال ابن العربي من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء، كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم، إلا قول { والذين هم لفروجهم حافظون }فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات،}إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم}وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخرى كآيات الإحصان عموما وخصوصا وغير ذلك من الأدلة. قلت: وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعا من العلماء؛ لأنها غير داخلة في الآية، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور. وروي عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته كانا على نكاحهما. قال أبو عمر: ولا يقل هذا أحد من فقهاء الأمصار؛ لأن تملكها عندهم يبطل النكاح بينهما، وليس ذلك بطلاق وإنا هو فسخ للنكاح؛ وأنها لو أعتقته بعد ملكها له لم يراجعها إلا بنكاح جديد ولو كانت في عدة منه. قال محمد بن الحكم: سمعت حرملة بن عبدالعزيز قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية { والذين هم لفروجهم حافظون} - إلى قوله - { العادون}. وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة؛ وفيه يقول الشاعر: ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المني. وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة؛ أصله القصد والحجامة. وعامة العلماء على تحريمه. وقال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل؛ ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها. فإن قيل: إنها خير من نكاح الأمة؛ قلنا: نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل أيضا، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل أو بالرجل الدنيء فكيف بالرجل الكبير. قوله {إلا على أزواجهم} قال الفراء: أي من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم لا يجاوزون. {أو ما ملكت أيمانهم} في موضع خفض معطوفة على {أزواجهم} و { ما} مصدرية. وهذا يقتضي تحريم الزنى وما قلناه من الاستنماء ونكاح المتعة؛ لأن المتمتع بها لا تجري مجرى الزوجات، لا ترث ولا تورث، ولا يلحق به ولدها، ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف لها، وإنما يخرج بانقضاء المدة التي عقدت عليها وصارت كالمستأجرة. ابن العربي: إن قلنا إن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجية. وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في الآية. قلت: وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنى الصريح أو يدفع الحد للشبهة ويلحق الولد، قولان لأصحابنا. وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم أحوال؛ فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر، ثم حللها في غزاة الفتح؛ ثم حرمها بعد؛ قاله ابن خويز منداد من أصحابنا وغيره، وإليه أشار ابن العربي. وقد مضى في -النساء- القول فيها مستوفى. قوله {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} فسمى من نكح ما لا يحل عاديا وأوجب عليه الحد لعدوانه، واللائط عاد قرآنا ولغة، بدليل قوله تعالى قلت: فيه نظر، ما لم يكن جاهلا أو متأولا، وإن كان الإجماع منعقدا على أن قوله {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} خص به الرجال دون النساء؛ فقد "روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة غلامها؛ فذكر ذلك لعمر فسألها: ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي ملك يميني كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين؛ فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله، لا رجم عليها. فقال عمر: لا جرم! والله لا أحلك لحر بعده أبدا. عاقبها ط لك ودرأ الحد عنها، وأم العبد ألا يقربها. وعن أبي بكر بن عبدالله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر ابن عبدالعزيز جاءته امرأة بغلام لها وضيء فقالت: إني استسررته فمنعني بنو عمي عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها؛ فإنه عني بني عمي؛ فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت نعم؛ قال: أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة؛ ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها. و{وراء} بممنى سوى، وهو مفعول بـ {ابتغى} أي من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له. وقال الزجاج: أي فمن ابتغى ما بعد ذلك؛ فمفعول الابتغاء محذوف، و{وراء} ظرف. و{ذلك} يشار به إلى كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا. {فأولئك هم العادون} أي المجاوزون الحد؛ من عدا أي جاوز الحد وجازه. قرأ الجمهور {لأماناتهم} بالجمع. وابن كثير بالإفراد. والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا فعلا. وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك؛ وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد. قرأ الجمهور {صلواتهم} وحمزة والكسائي {صلاتهم} بالإفراد؛ وهذا الإفراد اسم جنس فهو في معنى الجميع. والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها. وقد تقدم في -البقرة- مستوفى. ثمقال {أولئك هم الوارثون} أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون؛ أي يرثون منازل أهل النار من الجنة. {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } قوله {ولقد خلقنا الإنسان} الإنسان هنا آدم عليه الصلاة والسلام؛ قاله قتادة وغيره، لأنه استل من الطين. ويجيء الضمير في قوله {ثم جعلناه} عائدا على ابن آدم، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر؛ فإن المعنى لا يصلح إلا له. نظير ذلك فالنطفة سلالة، والولد سليل وسلالة؛ عنى به الماء يسل من الظهر سلا. قال الشاعر: وقال آخر: وقوله {من طين} أي أن الأصل آدم وهو من طين. قلت: أي من طين خالص؛ فأما ولده فهو من طين ومني، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام. وقال الكلبي: السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك؛ فالذي يخرج هو السلالة. {نطفة} قد مضى القول فيه. {ثم أنشأناه خلقا آخر} اختلف الناس في الخلق الآخر؛ فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد: هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا. وعن ابن عباس: خروج إلى الدنيا. وقال قتادة عن فرقة: نبات شعره. الضحاك: خروج الأسنان ونبات الشعر. مجاهد: كمال شبابه؛ وروي عن ابن عمر: والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. قوله {فتبارك الله أحسن الخالقين} وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى. وقال ابن جريج: إنما قال {أحسن الخالقين} لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق؛ واضطرب بعضهم في ذلك. ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع وإيجاد من العدم. من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا: الله أعلم؛ فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين. فقال عمر رضي الله عنه: أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه. وهذا الحديث بطول في مسند ابن أبي شيبة. فأراد ابن عباس -خلق ابن آدم من سبع- بهذه الآية، وبقوله -وجعل رزقه في سبع- قوله { ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } قوله {أي بعد الخلق والحياة. والنحاس: ويقال في هذا المعنى لمائتون. }ثم أخبر بالبعث بعد الموت فقال {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون}. { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين } قوله {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} قال أبو عبيدة: أي سبع سموات. وحكى عنه أنه يقال: طارقت الشيء، أي جعل بعضه فوق بعض؛ فقيل للسموات طرائق لأن بعضها فوق بعض. والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. وقيل: لأنها طرائق الملائكة. {وما كنا عن الخلق غافلين} قال بعض العلماء: عن خلق السماء. وقال أكثر المفسرين: أي عن الخلق كلهم من أن تسقط عليهم فتهلكهم. قلت: ويحتمل أن يكون المعنن {وما كنا عن الخلق غافلين} أي في القيام بمصالحه وحفظه؛ وهو معنى الحي القيوم؛ على ما تقدم. {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون } الأولى: هذه الآية من نعم الله تعالى على خلقه ومما آمتن به عليهم؛ ومن أعظم المنن الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان. والماء المنزل من السماء على قسمين: هذا الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه فالأرض، وجعله فيها مختزنا لسقي الناس يجدونه عند الحاجة إليه؛ وهو ماء الأنهار والعيون وما يستخرج من الآبار. وروي عن ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار الأربعة: سيحان وجيحان ونيل مصر والفرات. وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء. وهذا ليس على إطلاقه، وإلا فالأجاج ثابت في الأرض، فيمكن أن يقيد قوله بالماء العذب، ولا محالة أن الله تعالى قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء. وقد قيل: إن قوله {وأنزلنا من السماء ماء} إشارة إلى الماء العذب، وأن أصله من البحر، رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء، حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد؛ ثم أنزله إلى الأرض لنتفع به، ولو كان الأمر إلى ماء البحر لما انتفع به من ملوحته. قوله {بقدر} أي على مقدار مصلح، لأنه لو كثر أهلك؛ ومنه قوله كل ما نزل من السماء مختزنا كان أو غير مختزن فهو طاهر مطهر يغتسل به ويتوضأ منه؛ على ما يأتي في -الفرقان- بيانه. {فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون } قوله {فأنشأنا} أي جعلنا ذلك سبب النبات، وأوجدناه به وخلقناه. وذكر تعالى النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما؛ قاله الطبري. ولأنها أيضا أشرف الثمار، فذكرها تشريفا لها وتنبيها عليها. {لكم فيها} أي في الجنات. {فواكه} من غير الرطب والعنب. ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة إذ فيها مراتب وأنواع؛ والأول أعم لسائر الثمرات. من حلف ألا يأكل فاكهة؛ في الرواية عندنا يحنث بالباقلاء الخضراء وما أشبهها. وقال أبو حنيفة: لا يحنث بأكل القثاء والخيار والجزر، لأنها من القبول لا من الفاكهة. وكذلك الجوز واللوز والفستق؛ لأن هذه الأشياء لا تعد من الفاكهة وإن أكل تفاحا أو خوخا أو مشمشا أو تينا أو إجاصا يحنث. وكذلك البطيخ؛ لأن هذه الأشياء كلها تؤكل على جهة التفكه قبل الطعام وبعده؛ فكانت فاكهة. وكذلك يابس هذه الأشياء إلا البطيخ اليابس لأن ذلك لا يؤكل إلا في بعض البلدان. ولا يحنث بأكل البطيخ الهندي لأنه لا يعد من الفواكه. وإن أكل عنبا أو رمانا أو رطبا لا يحنث. وخالفه صاحباه فقالا يحنث؛ لأن هذه الأشياء من أعز الفواكه، وتؤكل على وجه التنعم. والإفراد لها بالذكر في كتاب الله عز جل لكمال معانيها؛ كتخصيص جبريل وميكائيل من الملائكة. واحتج أبو حنيفة بأن قال: عطف هذه الأشياء على الفاكهة مرة فقال { وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين } قوله {وشجرة} شجرة عطف على جنات. وأجاز الفراء الرفع لأنه لم يظهر الفعل، بمعنى وثم شجرة؛ ويريد بها شجرة الزيتون. وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشام والحجاز وغيرهما من البلاد، وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار. {تخرج} في موضع الصفة. {من طور سيناء} أي أنبتها الله في الأصل من هذا الجبل الذي بارك الله فيه. وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام؛ قال ابن عباس وغيره، وقد تقدم في البقرة والأعراف. والطور الجبل في كلام العرب. وقيل: هو مما عرب من كلام العجم. وقال ابن زيد: هو جبل بيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة. واختلف في سيناء؛ فقال قتادة: معناه الحسن؛ ويلزم على هذا التأويل أن ينون الطور على النعت. وقال مجاهد: معناه مبارك. وقال معمر عن فرقة: معناه شجر؛ ويلزمهم أن ينونوا الطور. وقال الجمهور: هو اسم الجبل؛ كما تقول جبل أحد. وعن مجاهد أيضا: سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده. وقال مقاتل: كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء؛ أي حسن. وقرأ الكوفيون بفتح السين على وزن فعلاء؛ وفعلاء في كلام العرب كثير؛ يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة؛ لأن في آخرها ألف التأنيث، وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه، وليس في الكلام فعلاء، ولكن من قرأ سيناء بكسر السين جعل فعلالا؛ فالهمزة فيه كهمزة حرباء، ولم يصرف في هذه الآية لأنه جعل اسم بقعة 0 وزعم الأخفش أنه اسم أعجمي. قوله {تنبت بالدهن} قرأ الجمهور {تنبت} بفتح التاء وضم الباء، والتقدير: تنبت ومعها الدهن؛ كما تقول: خرج زيد بسلاحه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بقسم التاء وكسر الباء. واختلف في التقدير على هذه القراءة؛ فقال أبو علي الفارسي: التقدير تنبت جناها ومعه الدهن؛ فالمفعول محذوف. وقيل: الباء زائدة؛ مثل وقال آخر: ونحو هذا قال أبو علي أيضا؛ وقد تقدم. وقيل: نبت وأنبت بمعنى؛ فيكون المعنى كما مضى في قراءة الجمهور، وهو مذهب الفراء وأبي إسحاق، ومنه قول زهير: والأصمعي ينكر أنبت، ويتهم قصيدة زهير التي فيها: أي نبت. وقرأ الزهري والحسن والأعرج {تنبت بالدهن} برفع التاء ونصب الباء. قال ابن جني والزجاج: هي باء الحال؛ أي تنبت ومعها دهنها. وفي قراءة ابن مسعود {تخرج بالدهن} وهي باء الحال. ابن درستويه: الدهن الماء اللين؛ تنبت من الإنبات. وقرأ زر بن حيش {تنبت } - بضم التاء وكسر الباء - {الدهن} بحذف الباء ونصبه. وقرأ سليمان بن عبدالملك والأشهب {بالدهان}. والمراد من الآية تعديه نعمة الزيت على الإنسان، وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها. ويدخل في معنى الزيتون شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار. قوله {وصبغ للآكلين} قراءة الجمهور. وقرأت فرقة {وأصباغ} بالجمع. وقرأ عامر بن عبد قيس {ومتاعا}؛ ويراد به الزيت الذي يصطبغ به الأكل؛ يقال: صبغ وصباغ؛ مثل دبغ ودباغ، ولبس ولباس. وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ؛ حكاه الهروي وغيره. وأصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبه الإدام به لأن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه. وقال مقاتل: الأدم الزيتون، والدهن الزيت. وقد جعل الله تعالى في هذه الشجرة أدما ودهنا؛ فالصبغ على هذا الزيتون. لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل والرب والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام. واختلف فيما كان جامدا كاللحم والتمر والزيتون وغير ذلك من الجوامد؛ فالجمهور أن ذلك كله إدام؛ فمن حلف ألا يأكل إداما فأكل لححا أو جبنا حنث. وقال أبو حنيفة: لا يحنث؛ وخالفه صاحباه. وقد روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة. والبقل ليس بإدام في قولهم جميعا. وعن الشافعي في التمر وجهان؛ والمشهور أنه ليس بإدام لقوله في التنبيه. وقيل يحنث؛ والصحيح أن هذا كله إدام. وقد {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون، وعليها وعلى الفلك تحملون، ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون، فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين، قال رب انصرني بما كذبون، فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } قوله {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون، وعليها وعلى الفلك تحملون }- تقدم القول فيهما في النحل.{ وعليها }أي وعلى الأنعام في البر. {وعلى الفلك} في البحر. {تحملون} وإنما يحمل في البر على البر فيجوز أن ترجع الكناية إلى بعض الأنعام. وروي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول فأنطقها الله تعالى معه فقالت: إنا لم نخلق لهذا! وإنما خلقت للحرث. {ما لكم من إله غيره} قرئ بالخفض ردا على اللفظ، وبالرفع ردا على المعنى. وقد مضى في - الأعراف - . قوله {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم} أي يسودكم ويشرف عليكم بأن يكون متبوعا ونحن له تبع. {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} أي لو شاء الله ألا يعبد شيء سواه لجعل رسول ملكا. {ما سمعنا بهذا} أي بمثل دعوته. وقيل: ما سمعنا بمثله بشرا؛ أي برسالة ربه. {في آبائنا الأولين} أي في الأمم الماضية؛ قال ابن عباس. والباء في {بهذا} زائدة؛ أي ما سمعنا هذا كائنا في أبائنا الأولين، ثم عطف بعضهم على بعض فقالوا}إن هو- يعنون نوحا {إلا رجل به جنة} أي جنون لا يدري ما يقول. {فتربصوا به حتى حين} أي انتظروا موته. وقيل: حتى يستبين جنونه. وقال الفراء: ليس يراد بالحين ها هنا وقت بعينه، إنما هو كقول: دعه إلى يوم ما. فقال حين تمادوا على كفرهم {رب انصرني بما كذبون} أي انتقم ممن لم يطعن ولم يسمع رسالتي. {فأوحينا إليه} أي أرسلنا إليه رسلا من السماء {أن اصنع الفلك} على ما تقدم بيانه. قوله {فاسلك فيها} أي أدخل فيها واجعل فيها؛ يقال: سلكته في كذا وأسلكته فيه في كذا وأسلكته فيه إذا أدخلته. قال عبد مناف بن ربع الهذلي: {من كلٍّ زوجين اثنين} قرأ حفص {من كل} بالتنوين، الباقون بالإضافة؛ وقد ذكر. وقال الحسن: لم يحتمل نوج في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأما البق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منها، وإنما خرج من الطين. وقد مضى القول في السفينة والكلام فيها مستوفى، والحمد لله. {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين } قوله {فإذا استويت} أي علوت. {أنت ومن معك على الفلك} راكبين. { فقل الحمد لله } أي احمدوا الله على تخليصه إياكم. {الذي نجانا من القوم الظالمين}ومن الغرق. والحمد لله: كلمة كل شاكر لله. وقد مضى في الفاتحة بيانه. { وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } قوله {وقل رب أنزلني منزلا مباركا}قراءة العامة {منزلا}بضم الميم وفتح الزاي، على المصدر الذي هو الإنزال؛ أي انزلني إنزالا مباركا. وقرأ زر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم والمفضل { منزلا}بفتح الميم وكسر الزاي على الموضع؛ أي أنزلني موضعا مباركا. الجوهري: المنزل بفتح الميم والزاي النزول وهو الحلول؛ تقول: نزلت نزولا ومنزلا. وقال: نصب {المنزل}لأنه مصدر. وأنزل غيره واستنزله بمعنى. ونزله تنزيلا؛ والتنزيل أيضا الترتيب. قال ابن عباس ومجاهد: هذا حين خرج من السفينة؛ مثل قوله قلت: وبالجملة فالآية تعليم من الله عز وجل لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا؛ بل وإذا دخلوا بيوتهم وسلموا قالوا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا دخل المسجد قال: اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين. {إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين } قوله {إن في ذلك}أي في أمر نوج والسفينة وإهلاك الكافرين. { لآيات}أي دلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه ويهلك أعداءهم. {وإن كنا لمبتلين}أي ما كنا إلا مبتلين الأمم قبلكم؛ أي مختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي فيتبين للملائكة حالهم؛ لا أن يستجد الرب علما. وقيل: أي نعاملهم معاملة المختبرين. وقد تقدم هذا المعنى في - البقرة - وغيرها. وقيل {إن كنا}أي وقد كنا. {ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين، فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } قوله {ثم أنشأنا من بعدهم}أي من بعد هلاك قوم نوح. { قرنا آخرين}قيل: هم قوم عاد. {فأرسلنا فيهم رسولا}يعني هودا؛ لأنه ما كانت أمة أنشأت في إثر قوم نوح إلا عاد. وقيل: هم قوم ثمود {فأرسلنا فيهم رسولا}يعني صالحا. قالوا: والدليل عليه قوله تعالى آخر الآية قلت: وممن أخذ بالصيحة أيضا أصحاب مدين قوم شعيب، فلا يبعد أن يكونوا هم، والله أعلم. {منهم}أي من عشيرتهم، يعرفون مولده ومنشأه ليكون سكونهم إلى قول أكثر. {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون، أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون } قوله {وقال الملأ من قومه}أي الأشراف والقادة والرؤساء. {الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة}يريد بالبعث والحساب. {وأترفناهم في الحياة الدنيا}أي وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا وصاروا يؤتون بالترفة، وهي مثل التحفة. {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون}فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إلى الطعام والشراب كأنتم. وزعم الفراء أن معنى {ويشرب مما تشربون}على حذف من، أي مما تشربون منه؛ وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف البتة؛ لأن {ما}إذا كان مصدرا لم يحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم يحتج إلى إضمار من. {ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون}يريد لمغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم. {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون}أي مبعوثون من قبوركم. و{أن}الأولى في موضع نصب بوقوع {يعدكم}عليها، والثانية بدل منها؛ هذا مذهب سيبويه. والمعنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم. قال الفراء: وفي قراءة عبدالله {أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون }؛ وهو كقولك: أظن إن خرجت أنك نادم. وذهب الفراء والجرمي وأبو العباس المبرد إلى أن الثانية مكررة للتوكيد، لما طال الكلام كان تكريرها حسنا. وقال الأخفش: المعنى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما يحدث إخراجكم؛ فـ {أن}الثانية في موضع رفع بفعل مضمر؛ كما تقول: اليوم القتال، فالمعنى اليوم يحدث القتال. وقال أبو إسحاق: ويجوز {أيعدكم إنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون}؛ لأن معنى {أيعدكم}أيقول إنكم. { هيهات هيهات لما توعدون } قال ابن عباس: هي كلمة للبعد؛ كأنهم قالوا بعيد ما توعدون؛ أي أن هذا لا يكون ما يذكر من البعث. وقال أبو علي: هي بمنزلة الفعل؛ أي بعد ما توعدون. وقال ابن الأنباري: وفي {هيهات}عشر لغات: هيهات لك بفتح التاء وهي قراءة الجماعة. وهيهات لك بخفض التاء؛ ويروى عن أبي جعفر بن القعقاع. وهيهات لك بالخفض والتنوين يروى عن عيسى ابن عمر. وهيهات لك برفع التاء؛ الثعلبي: وبها قرأ نصر بن عاصم وأبو العالية. وهيهات لك بالرفع والتنوين وبها قرأ أبو حيوة الشامي؛ ذكره الثعلبي أيضا. وهيهاتا لك بالنصب والتنوين قال الأحوص: واللغة السابعة: أيهات أيهات؛ وأنشد الفراء: قال المهدوي: وقرأ عيسى الهمداني {هيهات هيهات}بإسكان. قال ابن الأنباري: ومن العرب من يقول {أيهان}بالنون، ومنهم من يقول {أيها}بلا نون. وأنشد الفراء: فهذه عشر لغات. فمن قال {هيهات}بفتح التاء جعله مثل أين وكيف. وقيل: لأنهما أداتان مركبتان مثل خمسة عشر وبعلبك ورام هرمز، وتقف على الثاني بالهاء؛ كما تقول: خمس عشرة وسبع عشرة. وقال الفراء: نصبها كنصب ثمت وربت، ويجوز أن يكون الفتح إتباعا للألف والفتحة التي قبلها. ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء. قال: قال الكسائي: ومن كسر التاء وقف عليها بالهاء؛ فيقول هيهاه. ومن نصبها وقف بالتاء وإن شاء بالهاء. ومن ضمها فعلى مثل منذ وقط وحيث. ومن قرأ {هيهات}بالتنوين فهو جمع ذهب به إلى التنكير؛ كأنه قال بعدا بعدا. وقيل: خفض ونون تشبيها بالأصوات بقولهم: غاق وطاق. وقال الأخفش: يجوز في {هيهات}أن تكون جماعة فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث. ومن قرأ {هيهات}جاز أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد، ولم يجعله اسما للفعل فيبنيه. وقيل: شبه التاء بتاء الجمع، كقوله { إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين } قوله {إن هي إلا حياتنا الدنيا}{هي}كناية عن الدنيا؛ أي ما الحياة إلا ما نحن فيه لا الحياة الآخرة التي تعدنا بعد البعث. {نموت ونحيا}يقال: كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث؟ ففي هذا أجوبة؛ منها أن يكون المعنى: نكون مواتا، أي نطفا ثم نحيا في الدنيا. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت؛ كماقال { إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين، قال رب انصرني بما كذبون، قال عما قليل ليصبحن نادمين، فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين } قوله {إن هو إلا رجل}يعنون الرسول. {افترى}أي اختلق. {على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين، قال رب انصرني بما كذبون}تقدم. {قال عما قليل}أي عن قليل،و {ما}زائدة مؤكدة. {ليصبحن نادمين}على كفرهم، واللام لام القسم؛ أي والله ليصبحن. {فأخذتهم الصيحة}في التفاسير: صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها فماتوا عن آخرهم. {فجعلناهم غثاء}أي هلكى هامدين كغثاء السيل، وهو ما يحمله من بالي الشجر من الحشيش والقصب مما يبس وتفتت. {فبعدا للقوم الظالمين}أي هلاكا لهم. وقيل بعدا لهم من رحمة الله؛ وهو منصوب على المصدر. ومثله سقيا له ورعيا. { ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون، ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون } قوله {ثم أنشأنا من بعدهم}أي من بعد هلاك هؤلاء. {قرونا}أي أمما. {آخرين}قال ابن عباس: يريد بني إسرائيل؛ وفي الكلام حذف: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم. {ما تسبق من أمة أجلها}{من}صلة؛ أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لها ولا تتأخره؛ مثل قوله فإذا وقف على هذا الوجه جازت الإمالة، على أن ينوي الوقف على الألف الملحقة. وقرأ ورش بين اللفظتين؛ مثل سكرى وغضبى، وهو اسم جمع؛ مثل شتى وأسرى. وأصله وترى من المواترة والتواتر، فقلبت الواو تاء؛ مثل التقوى والتكلان وتجاه ونحوها. وقيل: هو الوتر وهو الفرد؛ فالمعنى أرسلناهم فردا فردا. النحاس: وعلى هذا يجوز {تترا}بكسر التاء الأولى، وموضعها نصب على المصدر؛ لأن معنى {ثم أرسلنا}واترنا. ويجوز أن يكون في موضع الحال أي متواترين. {فأتبعنا بعضهم بعضا}أي بالهلاك. {وجعلناهم أحاديث}جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به؛ كأعاجيب جمع أعجوبة، وهي ما يتعجب منه. قال الأخفش: إنما يقال هذا في الشر {جعلناهم أحاديث}ولا يقال في الخير؛ كما يقال: صار فلان حديثا أي عبرة ومثلا؛ كما قال في آية أخرى قلت: وقد يقال فلان حديث حسن، إذا كان مقيدا بذكر ذلك؛ ومنه قول ابن دريد: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين، فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون، فكذبوهما فكانوا من المهلكين } قوله {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين}تقدم. ومعنى {عالين}متكبرين قاهرين لغيرهم بالظلم؛ كما قال {ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون} قوله {ولقد آتينا موسى الكتاب}يعني التوراة؛ وخص موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور، وهارون خليفة في قومه. ولو قال {ولقد آتيناهما}جاز؛ كماقال { وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } قوله {وجعلنا ابن مريم وأمه آية}تقدم في {الأنبياء}القول فيه. {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين}الربوة المكان المرتفع من الأرض؛ وقد تقدم في - البقرة- والمراد بها ههنا في قول أبي هريرة فلسطين. وعنه أيضا الرملة؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس وابن المسيب وابن سلام: دمشق. وقال كعب وقتادة: بيت المقدس. قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. قال: وقال ابن زيد: مصر. و روى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير {وآويناهما إلى ربوة}قال: النشز من الأرض. {ذات قرار}أي مستوية يستقر عليها. وقيل: ذات ثمار، ولأجل الثمار يستقر فيها الساكنون. {ومعين}ماء جار ظاهر للعيون. يقال: معين ومعن؛ كما يقال: رغيف ورغف؛ قاله علي بن سليمان. وقال الزجاج: هو الماء الجاري في العيون؛ فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع، وكذلك الميم زائدة في قول من قال إنه الماء الذي يرى بالعين. وقيل: إنه فعيل بمعنى مفعول. قال علي بن سليمان: يقال من الماء إذا جرى فهو معين ومعيون. ابن الأعرابي: معن الماء يمعن معونا إذا جرى وسهل، وأمعن أيضا وأمعنته، ومياه معنان. {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} قال بعض العلماء: والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أقامه مقام الرسل؛ كماقال سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله {إني بما تعملون عليم}صلى الله على رسله وأنبيائه. وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم. وقد مضى القول في الطيبات والرزق في غير موضع، والحمد لله. وفي قوله عليه السلام (يمد يديه) دليل على مشروعية مد اليدين عند الدعاء إلى السماء؛ وقد مشى الخلاف في هذا والكلام فيه والحمد لله. وقوله عليه السلام (فأنى يستجاب لذلك) على جهة الاستبعاد؛ أي أنه ليس أهلا لإجابة دعائه لكن يجوز أن يستجيب الله له تفضلا ولطفا وكرما. {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون، فذرهم في غمرتهم حتى حين} قوله {وإن هذه أمتكم أمة واحدة}المعنى: هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالتزموه. والأمة هنا الدين؛ وقد تقدم محامله؛ ومنه قوله قرئ {وإن هذه}بكسر {إن}على القطع، وبفتحها وتشديد النون. قال الخليل: هي في موضع نصب لما زال الخافض؛ أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفراء}أن}متعلقة بفعل مضمر تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم. وهي عند سيبويه متعلقة بقوله {فاتقون}؛ والتقدير فاتقون لأن أمتكم واحدة. وهذا كقوله وهذه الآية تقوي أن قوله }يا أيها الرسل}إنما هو مخاطبة لجميعهم، وأنه بتقدير حضورهم. وإذا قدرت }يا أيها الرسل}مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فلق اتصال هذه الآية واتصال قوله }فتقطعوا}. أما أن قوله {وأنا ربكم فاتقوني}وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون فيه بالمعنى؛ فيحسن بعد ذلك اتصال. {فتقطعوا}أي افترقوا، يعني الأمم، أي جعلوا دينهم أديانا بعد ما أمروا بالاجتماع. ثم ذكر تعالى أن كلا منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال. هذه الآية تنظر إلى قوله {زبرا}يعني كتبا وضعوها وضلالات ألفوها؛ قاله ابن زيد. وقيل: إنهم فرقوا الكتب فاتبعت فرقة الصحف وفرقة التوراة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل، ثم حرف الكل وبدل؛ قاله قتادة. وقيل: أخذ كل فريق منهم كتابا آمن به وكفر بما سواه. و{زبرا}بضم الباء قراءة نافع، جمع زبور. والأعمش وأبو عمرو بخلاف عنه {زبرا}بفتح الباء، أي قطعا كقطع الحديد؛ كقوله المراد هنا الحيرة الغفلة والضلالة. ودخل فلان في غمار الناس، أي في زحمتهم. وقوله تعالى: {حتى حين}قال مجاهد: حتى الموت، فهو تهديد لا توقيت؛ كما يقال: سيأتي لك يوم. {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } قوله {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين}{ما}بمعنى الذي؛ أي أيحسبون يا محمد أن الذي نعطيهم في الدنيا من المال والأولاد هو ثواب لهم، إنما هو استدراج وإملاء، ليس إسراعا في الخيرات. وفي خبر {أن}ثلاثة أقوال، منها أنه محذوف. وقال الزجاج: المعنى نسارع لهم به في الخيرات، وحذفت به. وقال هشام الضرير قولا دقيقا،قال {أنما}هي الخيرات؛ فصار المعنى: نسارع لهم فيه، ثم أظهر فقال {في الخيرات}، ولا حذف فيه على هذا التقدير. ومذهب الكسائي أن {أنما}حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير حذف، ويجوز الوقف على قول {وبنين}. ومن قال {أنما}حرفان فلا بد من ضمير يرجع من الخبر إلى اسم {أن}ولم يتم الوقف على {وبنين}. وقال السختياني: لا يحسن الوقف على {وبنين}؛ لأن {يحسبون}يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين {في الخيرات}قال ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن {أن}كافية من اسم أن وخبرها ولا يجوز أن يؤتى بعد {أن}بمفعول ثان. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وعبدالرحمن بن أبي بكرة {يسارع}بالياء، على أن يكون فاعله إمدادنا. وهذا يجوز أن يكون على غير حذف؛ أي يسارع لهم الإمداد. ويجوز أن يكون فيه حذف، ويكون المعنى يسارع الله لهم. وقرئ {يسارع لهم في الخيرات}وفيه ثلاثة أوجه: أحدها على حذف به. ويجوز أن يكون يسارع الأمداد. ويجوز أن يكون {لهم}اسم ما لم يسم فاعله؛ ذكره النحاس. قال المهدوي: وقرأ الحر النحوي {نسرع لهم في الخيرات}وهو معنى قراءة الجماعة. قال الثعلبي: والصواب قراءة العامة؛ لقوله {نمدهم}. {بل لا يشعرون}أن ذلك فتنة لهم واستدراج. { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } قوله {لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين المسارعين في الخيرات ووعدهم، وذكر ذلك بأبلغ صفاتهم. و{مشفقون}خائفون وجلون مما خوفهم الله تعالى. {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}قال الحسن: يؤتون الإخلاص ويخافون ألا يقبل منهم. و {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } قوله {أولئك يسارعون في الخيرات}أي في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات والغرفات. وقرئ {يسرعون في الخيرات} أي يكونوا سراعا إليها. ويسارعون على معنى يسابقون من سابقهم إليها؛ فالمفعول محذوف. قال الزجاج: يسارعون أبلغ من يسرعون. {وهم لها سابقون}أحسن ما قيل فيه: أنهم يسبقون إلى أوقاتها. ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل؛ كما تقدم في - البقرة -وكل من تقدم في شيء فهو سابق إليه، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وفاته؛ فاللام في {لها}على هذا القول بمعنى إلى؛ كما قال وعن ابن عباس في معنى {وهم لها سابقون}سبقت لهم من الله السعادة؛ فلذلك سارعوا في الخيرات. وقيل: المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون. { ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون } قوله {ولا نكلف نفسا إلا وسعها}قد مضى في - البقرة-. {ولدينا كتاب ينطق بالحق}أظهر ما قيل فيه: إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة؛ وأضافه إلى نفسه لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره، فهو ينطق بالحق. وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم. ولفظ النطق يجوز في الكتاب؛ والمراد أن النبيين تنطق بما فيه. والله أعلم. وقيل: عنى اللوح المحفوظ، وقد أثبت فيه كل شيء، فهم لا يجاوزون ذلك. وقيل: الإشارة بقوله {ولدينا كتاب}القرآن، فالله أعلم، وكل محتمل والأول أظهر. {بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون، لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون } قوله {بل قلوبهم في غمرة من هذا}قال مجاهد: أي في غطاء وغفلة وعماية عن القرآن. ويقال: غمره الماء إذا غطاه. ونهر غمر يغطي من دخله. ورجل غمر يغمره آراء الناس. وقيل {غمرة}لأنها تغطي الوجه. ومنه دخل في غمار الناس وخمارهم، أي فيما يغطيه من الجمع. وقيل {بل قلوبهم في غمرة}أي في حيرة وعمى؛ أي مما وصف من أعمال البر في الآيات المتقدمة؛ قال قتادة. أو من الكتاب الذي ينطق بالحق. {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون}قال قتادة ومجاهد: أي لهم خطايا لا بد أن يعملوها من دون الحق. وقال الحسن وابن زيد: المعنى ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من دون ما هم عليه، لا بد أن يعملوها دون أعمال المؤمنين، فيدخلون بها النار، لما سبق لهم من الشقوة. ويحتمل ثالثا: أنه ظلم الخلق مع الكفر بالخالق؛ ذكره الماوردي. والمعنى متقارب. {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب}يعني بالسيف يوم بدر؛ قال ابن عباس. وقال الضحاك: يعني بالجوع حين قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار؛ يقال: جأر الثور يجأر أي صاح. وقرأ بعضهم {عجلا جسدا له جؤار}حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله عز وجل تضرع بالدعاء. قتادة: يصرخون بالتوبة فلا تقبل منهم. قال: وقال ابن جريج}حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب}هم الذين قتلوا ببدر {إذا هم يجأرون}هم الذين بمكة؛ فجمع بين القولين المتقدمين، وهو حسن. {لا تجأروا اليوم}أي من عذابنا. {لا تنصرون}لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم. وقال الحسن: لا تنصرون بقبول التوبة. وقيل: معنى هذا النهي الإخبار؛ أي إنكم إن تضرعتم لم ينفعكم. {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون، مستكبرين به سامرا تهجرون} قوله {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون}الآيات يريد بها القرآن. {تتلى عليكم}أي تقرأ. قال الضحاك: قبل أن تعذبوا بالقتل و{تنكصون}ترجعون وراءكم. مجاهد: تستأخرون؛ وأصله أن ترجع القهقرى. قال الشاعر: وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق. قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه {على أدباركم}بدل {على أعقابكم}، {تنكصون}بضم الكاف. و{مستكبرين به}حال، والضمير في {به}قال الجمهور: هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة، وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر؛ أي يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف. وقيل: المعنى أنهم يعتقدون في نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل؛ فيستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق. وقالت فرقة: الضمير عائد عل القرآن من حيث ذكرت الآيات؛ والمعنى: يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا فلا تؤمنوا به. قال ابن عطية: وهذا قول جيد. النحاس: والقول الأول أولى، والمعنى: أنهم يفتخرون بالحرم ويقولون نحن أهل حرم الله تعالى. قوله {سامرا تهجرون}{سامرا}نصب على الحال، ومعناه سمارا، وهو الجماعة يتحدثون بالليل، مأخوذ من السمر وهو ظل القمر؛ ومنه سمرة اللون. وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سمر القمر؛ فسمي التحدث به. قال الثوري: يقال لظل القمر السمر؛ ومنه السمرة في اللون، ويقال له: الفخت؛ ومنه قيل فاختة. وقرأ أبو رجاء {سمارا}وهو جمع سامر؛ كما قال: ألست ترى السمار والناس أحوالي وفي حديث قيلة: إذا جاء زوجها من السامر؛ يعني من القوم الذين يسمرون بالليل؛ فهو اسم مفرد بمعنى الجمع، كالحاضر وهم القوم النازلون على الماء، والباقر جمع البقر، والجامل جمع الإبل، ذكورتها وإناثها؛ ومنه قوله كأنه سمى المكان الذي يجتمع فيه للسمر بذلك. وقيل: وحد سامرا وهو بمعنى السمار؛ لأنه وضع موضع الوقت، كقول الشاعر: فقال: سمرا لأن معناه: إن جئتهم ليلا وجدتهم وهم يسمرون. وابنا سمير: الليل والنهار؛ لأنه يسمر فيهما، يقال: لا أفعله ما سمر ابنا سمير أبدا. ويقال: السمير الدهر، وابناه الليل والنهار. ولا أفعله السمر والقمر؛ أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء. ولا أفعله سمير الليالي. قال الشنفرى: والسمار بالفتح اللبن الرقيق. وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث، وهذا أوجب معرفتها بالنجوم؛ لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب. وكانت قريش تسمر حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها، فعابهم الله بذلك. و{تهجرون}قرئ بضم التاء وكسر الجيم من أهجر، إذا نطق بالفحش. وبنصب التاء وضم الجيم من هجر المريض إذا هدى. ومعناه: يتكلمون بهوس وسيء من القول في النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن؛ عن ابن عباس وغيره. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية {مستكبرين به سامرا تهجرون}؛ يعني أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير طاعة الله تعالى، إما في هذيان وإما في إذاية. وكان الأعمش يقول: إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر؛ يعني يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون بأيام الخلفاء والأمراء ولا يحسن أحدهم أن يتوضأ للصلاة. هذه الكراهة إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب والأذكار وتعليم العلم، ومسامرة الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبيته. وقد قال "البخاري": (باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء) { أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين } قوله {أفلم يدبروا القول}يعني القرآن؛ وهو كقوله { أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون } هذا تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح، فيقولون: الخير أحب إليك أم الشر؛ أي قد أخبرت الشر فتجنبه، وقد عرفوا رسولهم وأنه من أهل الصدق والأمانة؛ ففي اتباعه النجاة والخير لولا العنت. قال سفيان: بلى! قد عرفوه ولكنهم حسدوه! {أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } قوله {أم يقولون به جنة}أي أم يحتجون في ترك الإيمان به بأنه مجنون، فليس هو هكذا لزوال أمارات الجنون عنه. {بل جاءهم بالحق}يعني القرآن والتوحيد الحق والدين الحق. {وأكثرهم}أي كلهم {للحق كارهون}حسدا وبغيا وتقليدا. {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون } قوله {ولو اتبع الحق}{الحق}هنا هو الله سبحانه وتعالى؛ قال الأكثرون، منهم مجاهد وابن جريج وأبو صالح وغيرهم. وتقديره في العربية: ولو اتبع صاحب الحق؛ قاله النحاس. وقد قيل: هو مجاز، أي لو وافق الحق أهواءهم؛ فجعل موافقته اتباعا مجازا؛ أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله عز وجل ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك إما عجزا وإما جهلا لفسدت السموات والأرض. وقيل: المعنى ولو كان الحق ما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله تعالى لتنافت الآلهة، وأراد بعضهم ما لا يريده بعض، فاضطرب التدبير وفسدت السموات والأرض، وإذا فسدتا فسد من فيهما. وقيل {لو اتبع الحق أهواءهم}أي بما يهواه الناس ويشتهونه لبطل نظام العالم؛ لأن شهوات الناس تختلف وتتضاد، وسبيل الحق أن يكون متبوعا، وسبيل الناس الانقياد للحق. وقيل {الحق}القرآن؛ أي لو نزل القرآن بما يحبون لفسدت السموات والأرض. {ومن فيهن}إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض وجنها؛ الماوردي. وقال الكلبي: يعني وما بينهما من خلق؛ وهي قراءة ابن مسعود {لفسدت السموات والأرض وما بينهما}فيكون على تأويل الكلبي وقراءة ابن مسعود محمولا على فساد من يعقل وما لا يعقل من حيوان وجماد. وظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محمولا على فساد ما يعقل من الحيوان؛ لأن ما لا يعقل تابع لما يعقل في الصلاح والفساد، فعلى هذا ما يكون من الفساد يعود على من في السموات من الملائكة بأن جعلت أربابا وهي مربوبة، وعبدت وهي مستعبدة. وفساد الإنس يكون على وجهين: أحدهما: باتباع الهوى، وذلك مهلك. الثاني: بعبادة غير الله، وذلك كفر. وأما فساد ما عدا ذلك فيكون على وجه التبع؛ لأنهم مدبرون بذوي العقول فعاد فساد المدبرين عليهم. قوله {بل أتيناهم بذكرهم}أي بما فيه شرفهم وعزهم؛ قاله السدي وسفيان. وقال قتادة: أي بما لهم فيه ذكر ثوابهم وعقابهم. ابن عباس: أي ببيان الحق وذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين. {فهم عن ذكرهم معرضون} { أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين } قوله {أم تسألهم خرجا}أي أجرا على ما جئتهم به؛ قال الحسن وغيره. {فخراج ربك خير}وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب {خراجا}بألف. الباقون بغير ألف. وكلهم قد قرؤوا {فخراج}بالألف إلا ابن عامر وأبا حيوة فإنهما قرأ بغير الألف. والمعنى: أم تسألهم رزقا فرزق ربك خير. {وهو خير الرازقين}أي ليس يقدر أحد أن يرزق مثل رزقه، ولا ينعم مثل إنعامه. وقيل: أي ما يؤتيك الله من الأجر على طاعتك له والدعاء إليه خير من عرض الدنيا، وقد عرضوا عليك أموالهم حتى تكون كأعين رجل من قريش فلم تجبهم إلى ذلك؛ قال معناه الحسن. والخرج والخراج واحد، إلا أن اختلاف الكلام أحسن؛ قال الأخفش. وقال أبو حاتم: الخرج الجعل، والخراج العطاء. المبرد: الخرج المصدر، والخراج الاسم. وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به. وعنه أن الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. ذكر الأول الثعلبي والثاني الماوردي. {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم، وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون } قوله {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم}أي إلى دين قويم. والصراط في اللغة الطريق؛ فسمي الدين طريقا لأنه يؤدي إلى الجنة فهو طريق إليها. {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة}أي بالبعث. {عن الصراط لناكبون}قيل: هو مثل الأول. وقيل: إنهم عن طريق الجنة لناكبون حتى يصيروا إلى النار. نكب عن الطريق ينكب نكوبا إذا عدل عنه ومال إلى غيره؛ ومنه نكبت الريح إذا لم تستقم على مجرى. وشر الريح النكباء. {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون } قوله {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر}أي لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم {للجوا في طغيانهم}قال السدي: في معصيتهم. {يعمهون}قال الأعمش: يترددون. قال ابن جريج}ولو رحمناهم}يعني في الدنيا {وكشفنا ما بهم من ضر}أي من قحط وجوع {للجوا}أي لتمادوا {في طغيانهم}وضلالتهم وتجاوزهم الحد {يعمون}يتذبذبون ويخبطون. { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} قوله {ولقد أخذناهم بالعذاب}قال الضحاك: بالجوع. وقيل: بالأمراض والحاجة والجوع. وقيل: بالقتل والجوع. {فما استكانوا لربهم}أي ما خضعوا. {وما يتضرعون}أي ما يخشعون لله عز وجل في الشدائد تصيبهم. قال ابن عباس: {حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون } قوله {حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد}قال عكرمة: هو باب من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، وقد قلعت الرحمة من قلوبهم؛ إذا بلغوه فتحه الله عز وجل عليهم. وقال ابن عباس: هو قتلهم بالسيف يوم بدر. مجاهد: هو القحط الذي أصابهم حتى أكلوا العلهز من الجوع؛ على ما تقدم. وقيل فتح مكة. {إذا هم فيه مبلسون}أي يائسون متحيرون لا يدرون ما يصنعون، كالآيس من الفرج ومن كل خير. وقد تقدم في - الأنعام-. {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } قوله {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة}عرفهم كثرة نعمه وكمال قدرته. {قليلا ما تشكرون}أي ما تشكرون إلا شكرا قليلا. وقيل: أي لا تشكرون البتة. { وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون } قوله {وهو الذي ذرأكم في الأرض}أي أنشأكم وبثكم وخلقكم. {وإليه تحشرون}أي تجمعون للجزاء. {وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون، بل قالوا مثل ما قال الأولون، قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون، لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين، قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون } قوله {وهو الذي يحي ويميت وله اختلاف الليل والنهار}أي جعلهما مختلفين؛ كقولك: لك الأجر والصلة؛ أي إنك تؤجر وتوصل؛ قاله الفراء. وقيل: اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر. وقيل: اختلافهما في النور والظلمة. وقيل: تكررهما يوما بعد ليلة وليلة بعد يوم. ويحتمل خامسا: اختلاف ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى. {أفلا تعقلون}كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته، وأنه لا يجوز أن يكون له شريك من خلقه، وأنه قادر على البعث. ثم عيرهم بقولهم وأخبر عنهم أنهم {قالوا مثل ما قال الأولون}هذا لا يكون ولا يتصور. {لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل}أي من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، فلم نر له حقيقة. {إن هذا}أي ما هذا {إلا أساطير الأولين}أي أباطيلهم وترهاتهم؛ وقد تقدم هذا كله. قال الله {قل}يا محمد جوابا لهم عما قالوه {لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون}يخبر بربوبيته ووحدانيته وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول؛ فـ {سيقولون لله}ولا بد لهم من ذلك. {قل أفلا تتذكرون}أي أفلا تتعظون وتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو على إحياء الموتى بعد موتهم قادر. قوله يريد أفلا تخافون حيث تجعلون لي ما تكرهون؛ زعمتم أن الملائكة بناتي، وكرهتم لأنفسكم البنات. {قل من بيده ملكوت كل شيء}بريد السموات وما فوقها وما بينهن، والأرضين وما تحتهن وما بينهن، وما لا يعلمه أحد إلا هو. وقال مجاهد}ملكوت كل شيء}خزائن كل شيء. الضحاك: ملك كل شيء. والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت؛ وقد مضى في - الأنعام -. {وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون}أي يمنع ولا يمنع منه. وقيل {يجير}يؤمن من شاء. {ولا يجار عليه}أي لا يؤمن من أخافه. ثم قيل: هذا في الدنيا؛ أي من أراد الله إهلاكه وخوفه لم يمنعه منه مانع، ومن أراد نصره وأمنه لم يدفعه من نصره وأمنه دافع. وقيل: هذا في الآخرة، أي لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه عن مستوجبه العذاب دافع. {فأنى تسحرون}أي فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده. أو كيف يخيل إليكم أن تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع! والسحر هو التخييل. وكل هذا احتجاج على العرب المقرين بالصانع وقرأ أبو عمرو {سيقولون لله}في الموضعين الأخيرين؛ وهي قراءة أهل العراق. الباقون {لله}، ولا خلاف في الأول أنه {لله}؛ لأنه جواب لـ {قل لمن الأرض ومن فيها}فلما تقدمت اللام في {لمن}رجعت في الجواب. ولا خلاف أنه مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف. وأما من قرأ {سيقولون الله}فن السؤال بغير لام فجاء الجواب على لفظه، وجاء في الأول {لله}لما كان السؤال باللام. وأما من قرأ {لله}باللام في الأخيرين وليس في السؤال لام فن معنى {من رب السموات السبع ورب العرش العظيم}: قل لمن السموات السبع ورب العرش العظيم. فكان الجواب {لله}؛ حين قدرت اللام في السؤال. وعلة الثالثة كعلة الثانية. وقال الشاعر: أي لمن المزالف. ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار وإقامة الحجة عليهم. وقد تقدم في - البقرة -. ونبهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة. { بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون، عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون قوله {بل أتيناهم بالحق}أي بالقول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك ونفي البعث. {وإنهم لكاذبون}أن الملائكة بنات الله. فقال الله {ما اتخذ الله من ولد}{من}صلة. {وما كان معه من إله}{من}زائدة؛ والتقدير: ما اتخذ الله ولدا كما زعمتم، ولا كان معه إله فيما خلق. وفي الكلام حذف؛ والمعنى: لو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه. {ولعلا بعضهم على بعض}أي ولغالب وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية. وهذا الذي يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا؛ لأن الولد ينازع الأب في الملك منازعة الشريك. {سبحان الله عما يصفون}تنزيها له عن الولد والشريك. {عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}تنزيه وتقديس. وقرأ نافا وأبو بكر وحمزة والكسائي {عالم}بالرفع على الاستئناف؛ أي هو عالم الغيب. الباقون بالجر على الصفة لله. و روى رويس عن يعقوب {عالم}إذا وصل خفضا. و{عالم}إذا ابتدأ رفعا. { قل رب إما تريني ما يوعدون، رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } علمه ما يدعو به؛ أي قل رب، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب. {فلا تجعلني في القوم الظالمين}أي في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم. وقيل: النداء معترض؛ و{ما}في {إما}زائدة. وقيل: إن أصل إما إن ما؛ فـ {إن}شرط و{ما}شرط، فجمع بين الشرطين توكيدا، والجواب {فلا تجعلني في القوم الظالمين}؛ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم. وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى. { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } نبه على أن خلاف المعلوم مقدور، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك. { ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون } قوله {ادفع بالتي هي أحسن السيئة}أمر بالصفح ومكارم الأخلاق؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا. وما كان فيها من موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال. {نحن أعلم بما يصفون}أي من الشرك والتكذيب. وهذا يقتضي أنها آية موادعة، والله تعالى أعلم. {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون } قوله {من همزات الشياطين}{الهمزات}هي جمع همزة. والهمز في اللغة النخس والدفع؛ يقال: همزة ولمزه ونخسه دفعه. قال الليث: الهمز كلام من وراء القفا، واللمز مواجهة. والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم؛ وهو قوله {أعوذ بك من همزات الشياطين}أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى. وفي الحديث: كان يتعوذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه. قال أبو الهيثم: إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام. وسمي الأسد هوسا؛ لأنه يمشي بخفه لا يسمع صوت وطئه. وقد تقدم في - طه - أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، كأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية. فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية؛ وقد تقدم في آخر - الأعراف - بيانه مستوفى، وفي أول الكتاب أيضا. وروي عن علي بن حرب بن محمد الطائي حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. وفي كتاب أبي داود قال عمر: وهمزه الموتة؛ قال ابن ماجة: الموتة يعني الجنون. والتعوذ أيضا من الجنون وكيد. وفي قراءة أبي {رب عائذا بك من همزات الشياطين، وعائذا بك أن يحضرون}؛ أي يكونوا معي في أموري، فإنهم إذ ا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز. {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } قوله {حتى إذا جاء أحدهم الموت}عاد الكلام إلى ذكر المشركين؛ أي قالوا {أئذا متنا - إلى قوله - إن هذا إلا أساطير الأولين}. ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء، ثم قال هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه؛ كما قال قلت: ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي. ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه. قوله {لعلي أعمل صالحا}قال ابن عباس: يريد أشهد أن لا إله إلا الله. {فيما تركت}أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات. وقيل {فيما تركت}من المال فأتصدق. و{لعل}تتضمن ترددا؛ وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير تردد. فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا، وإما إلى التوفيق؛ أي أعمل صالحا إن وفقتني؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا. {كلا}هذه كلمة رد؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح. وقيل: لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول؛ كماقال { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } قوله {فإذا نفخ في الصور}المراد بهذا النفخ النفخة الثانية. {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}قال ابن عباس: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا؛ من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب، ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم. وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية وقول { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون } تقدم الكلام فيهما. {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} قوله {تلفح وجوههم النار}ويقال {تنفح}بمعناه؛ ومنه وقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا. وما أقبح كلحته؛ يراد به الفم وما حواليه. ودهر كالح أي شديد. وعن ابن عباس أيضا {وهم فيها كالحون}يريد كالذي كلح وتقلصت شفتاه وسال صديده. وقال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار، وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه. {قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون } قوله {قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا}قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم {شقوتنا}وقرأ الكوفيون إلا عاصما {شقاوتنا}. وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال: شقاء وشقا؛ بالمد والقصر. وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا؛ فسمى اللذات والأهواء شقوة، لأنهما يؤديان إليها، كما قال الله عز وجل {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون قوله {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا}الآية. قال مجاهد: هم بلال وخباب وصهيب، وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين؛ كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم. {فاتخذتموهم سخريا}بالضم قراءة نافع وحمزة والكسائي ها هنا وفي - ص -وكسر الباقون. قال النحاس: وفرق أبو عمرو بينهما، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ، والمضمومة من جهة السخرة، ولا يعرف هذا التفريق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد؛ كما يقال: عصي وعصي، ولجي ولجي. وحكى الثعلبي عن الكسائي والفراء الفرق الذي ذكره أبو عمرو، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء والسخرية بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل. وقال المبرد: إنما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب، وأما التأويل فلا يكون. والكسر في سخري في المعنيين جميعا؛ لأن الضمة تستثقل في مثل هذا. {حتى أنسوكم ذكري}أي اشتغلتم بالاستهزاء بهم عن ذكرى. {وكنتم منهم تضحكون}استهزاء بهم، وأضاف الإساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره؛ وتعدي شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم. {إني جزيتهم اليوم بما صبروا}على أذاكم، وصبروا على طاعتي. {أنهم هم الفائزون}قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم وفتح الباقون؛ أي لأنهم هم الفائزون. ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه، تقديره: إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة. قلت: وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المطففين {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } قوله {قال كم لبثتم في الأرض}قيل: يعني في القبور. وقيل: هو سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا. وهذا السؤال للمشركين في عرصات القيامة أو في النار. {عدد سنين}بفتح النون على أنه جمع مسلم، ومن العرب من يخفضها وينونها. {قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم}أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في القبور. وقيل: لأن العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم. قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية؛ وذلك أنه ليس من أحد قتله نبي أو قتل نبيا أو مات بحضرة نبي إلا عذب من ساعة يموت إلى النفخة الأولى، ثم يمسك عنه العذاب فيكون كالماء حتى ينفخ الثانية. وقيل: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده. {فاسأل العادين}أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا قد نسيناه، أو فاسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا؛ الأول قول قتادة، والثاني قول مجاهد، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {قل كم لبثتم في الأرض}على الأمر. ويحتمل ثلاثة معان: أحدها: قولوا كم لبثتم؛ فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد الجماعة؛ إذ كان المعنى مفهوما. الثاني: أن يكون أمرا للملك ليسألهم يوم البعث عن قدر مكثهم في الدنيا. أو أراد قل أيها الكافر كم لبثتم، وهو الثالث. الباقون {قال كم}على الخبر؛ أي قال الله تعالى لهم، أو قالت الملائكة لهم كم لبثتم. وقرأ حمزة والكسائي أيضا {قل إن لبثتم إلا قليلا}الباقون {قال}على الخبر، على ما ذكر من التأويل الأول؛ أي ما لبثتم في الأرض إلا قليلا؛ وذلك أن مكثهم في القبور وإن طال كان متناهيا. وقيل: هو قليل بالنسبة إلى مكثهم في النار؛ لأنه لا نهاية له. {لو أنكم كنتم تعلمون}ذلك. {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } قوله {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا}أي مهملين كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها؛ مثل قوله {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } قوله {فتعالى الله الملك الحق}أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها؛ لأنه الحكيم. {لا إله إلا هو رب العرش الكريم}ليس في القرآن غيرها. وقرأ ابن محيصن وروي عن ابن كثير {الكريم}بالرفع نعتا لله. {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون، وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } قوله {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به}أي لا حجة له عليه {فإنما حسابه عند ربه}أي هو يعاقبه ويحاسبه. {إنه}الهاء ضمير الأمر والشأن. {إنه لا يفلح الكافرون}وقرأ الحسن وقتادة {لا يفلح}- بالفتح - من كذب وجحد ما جئت به وكفر نعمتي. ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستغفار لتقتدي به الأمة. وقيل: أمره بالاستغفار لأمته.
|